2010/01/30

«أبو راتب».. عنوان آخر لاضطهاد مسلمي أمريكا


بسم الله الرحمن الرحيم 
  *
*
*
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. وبعد:
 
 
 
أسامة أبو ارشيد , جريدة السبيل

هكذا نحن مسلمو أمريكا، لا نكاد نستفيق من صدمة ونتعافى من ضربة، حتى تحل بنا واحدة جديدة وتهوي علينا أخرى. أبدأ بهذه العبارات على خلفية اعتقال المنشد الإسلامي السوري محمد مصطفى مسقفة، المشهور بأبي راتب (47 عاما)، وذلك خلال عودته الأسبوع الماضي برا من كندا إلى ولاية ميتشغان الأمريكية، حيث كان يقيم ويعمل.
فيوم الجمعة (22/1)، وخلال محاولته العبور إلى الولايات المتحدة عبر جسر "السفير"، اعتقلت سلطات الجمارك وأمن الحدود، أبا راتب، بناء على لائحة اتهام موجهة ضده، ولم يكشف عنها من قبل، تتهمه بالكذب على عناصر من مكتب التحقيقات الفدرالي "أف. بي. آي"، وسلطات الهجرة، فضلا عن "الاحتيال" في أوراق طلب الحصول على الجنسية الأمريكية، حيث إن أبا راتب يحمل كرت الإقامة الدائمة في أمريكا (الكرت الأخضر)، كما تتهمه اللائحة أيضا بالحنث باليمين.
وتزعم الحكومة، حسب بيان مكتب الادعاء للمقاطعة الشرقية لولاية ميتشغان، والصادر في نفس يوم اعتقال أبي راتب، أن هذا الأخير، "احتال" بطلبه للتقدم بالجنسية الأمريكية عام 2002، وذلك عندما لم يذكر فيه أنه اشتغل في فترة ما مع مؤسسة الأرض المقدسة للإغاثة والتنمية "هولي لاند فونديشين"، والتي أغلقتها الحكومة أسابيع قليلة بعد هجمات أيلول 2001، بحجة دعم حركة حماس. وقد أدينت المؤسسة وخمسة من موظفيها ومتطوعيها في مدينة دالاس/تكساس أواخر عام 2008، في حكم إشكالي بعد محاكمة مثيرة وطويلة، تضمنت عجز هيئة محلفين عام 2007 عن إدانة أي من المتهمين الخمسة، غير أن غياب القاضي عن محكمته يوم صدور الحكم، وعودته أربعة أيام بعد صدوره، أحدث ارتباكا وخللا لدى مُحَلَّفَيْنِ من أصل 12 غيرا رأيهما خلال تلك الأيام الأربعة. وبسبب ذلك الخلل، تمكنت الحكومة من محاكمة المؤسسة ومسؤوليها ومتطوعيها الخمسة مجددا، وإدانتهم في قضية لم تنته فصولها بعد في المحاكم الأمريكية.
ويزعم بيان الادعاء أيضا، أن أبا راتب "كذب" على عناصر من "أف. بي. آي" عام 2003، وذلك عندما أخبرهم بأنه لم يعمل مع مؤسسة الأرض المقدسة كموظف، وإنما ساهم كمنشد في بعض أنشطتها قبل إغلاقها، وبأنه لم يتلق يوما تعويضات عن عمل له مع المؤسسة، خارج سياق فرقة الإنشاد. غير أن الحكومة تزعم، أن أبا راتب عمل فعليا مع المؤسسة في مكتبها في مدينة ديترويت في ولاية ميتشغان ما بين عامي 1997-1998، وبأنها عثرت على شيكات مكتوبة له من قبل المؤسسة تؤكد مزاعمها. كما وجه الادعاء إلى أبي راتب تهمة الحنث باليمين، وهي التهم التي لو أثبت ضده، لا قدر الله، فإنه قد يسجن بسببها 23 عاما، ويغرم سبعمائة وخمسين ألف دولار (750,000)!!.
بداية لا بد من الإشارة هنا إلى أن أبا راتب أنكر في أول ظهور له في المحكمة (الاثنين 25/1) كل هذه التهم الموجهة له، كما أن محاميه يصر على أنها تهم بلا دلائل، وهذه أمور سيتم الفصل فيها في المحكمة.
الآن، ما ينبغي قوله هنا، إن قضية أبي راتب ليست حادثة معزولة تتحرك ضمن فراغ، بل إنها تمثل حلقة جديدة في سياق مستمر لاستهداف المسلمين في أمريكا منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي تقريبا، وتصاعدت بشكل حاد ورهيب بعد هجمات أيلول 2001 على كل من نيويورك وواشنطن. ولا أريد هنا أن أكرر ما كنت كتبته من قبل في مقالات سابقة في السبيل عن هذه الحملة وفصولها وحوادثها، ففيها ما يكفي لإعطاء صورة موجزة ومبسطة عن واقع الرعب والظلم الذي يحياه مسلمو أمريكا.
شخصيا التقيت أبا راتب مرات كثيرة، لعل آخرها كانت عام 2008 في نشاط للجالية المسلمة في مدينة شيكاغو في ولاية ألينوي. هذه الشخصية الوادعة والمحببة للقلب، لها مكانة كبيرة بين أبناء الجالية المسلمة في أمريكا، خصوصا العرب منهم، وبشكل أكثر تحديدا في مدينة ديترويت وضواحيها، حيث كان يقيم ويعمل مدرسا في إحدى المدارس الإسلامية.
لا أزعم معرفة عميقة به (وإن كنا نعرف بعضنا بعضا)، ولا أزعم كذلك أنا كنا على تواصل دائم، فمكان إقامتينا متباعدان كثيرا، ولكنني أعرفه بما فيه الكفاية لأقول بأن الرجل جاء إلى هذه البلاد طامعا بغد أجمل، وأمن أكبر، واستقرار أفضل، ولكنه ومن الأسف، وكحال مئات، بل وآلاف المسلمين، وجد تحيزا واستهدافا لكل من انخرط بالعمل الإسلامي المشروع والقانوني لتحسين واقع مسلمي أمريكا، وصياغة مستقبل أفضل لهم، فضلا عن محاولة الدفع باتجاه أمريكا أفضل وأكثر عدالة للجميع.  
هذا لا يعني أن أبا راتب كان منخرطا بالعمل السياسي، فأنا مذ التقيته أول مرة (في حدود عام 2000)، وهو يبتعد عن الدخول والخوض بالسياسية، وما أعلمه عنه منذ تلك الفترة أن الرجل بالإضافة إلى عمله بالتدريس، كان يقوم بالإنشاد بالتعاقد مع فرق عدة. بل إن أبا راتب توقف حتى عن النشيد الذي يحمل مضامين سياسية في مرحلة ما بعد هجمات أيلول 2001، وربما قبل ذلك، على الأقل في أمريكا.
ولكن حقيقة كون أبي راتب لا يتدخل بالسياسة ولا ينخرط حتى بالجهد الحقوقي والمدني للجالية المسلمة في أمريكا، واكتفائه بالتعليم للأطفال والنشيد غير المسيس، لم يشفعا له عند بعض من لا يريد بالمسلمين خيرا في هذه البلاد. فكان أن استهدف كغيره، وعطل حقه بالحصول على الجنسية الأمريكية، ثمّ تزايدت عليه الضغوط حتى اضطر فيما أعرف إلى التوجه إلى الشارقة أو غيرها للعمل، ثمّ عودته الأخيرة، التي يبدو، كما سمعت من بعض الأصدقاء المشتركين، التي جاءت لتجديد بطاقة الإقامة الدائمة التي شارفت على الانتهاء.
بعض المواقع اليمينية المعروفة بارتباطاتها الصهيونية في الولايات المتحدة، فتحت ملفا لأبي راتب بهدف التحريض والتشنيع عليه، مشيرة إلى أنه أنشد يوما لحركة حماس. طبعا هم يعلمون أن الإنشاد لحماس، أو أي مجموعة أخرى، حتى لو كانت "القاعدة" نفسها، أمر محمي في الولايات المتحدة بالتعديل الدستوري الأول، والذي ينص في أحد أبعاده على حرية التعبير. هذا طبعا إن لم يتحول هذا الدعم اللفظي إلى دعم مادي بأي شكل من الأشكال. ولكن لماذا يقومون بذلك إذا كانوا يعلمون أنه لا يمكن محاكمته على أناشيده القديمة تلك، حتى لو كان أنشدها قبل اعتقاله ببضع دقائق؟
ببساطة، إنهم يحاولون التأثير على الرأي العام لتبني موقف سلبي منه. وإذا ما نجح مسعاهم ذاك، فإن هذا يعني تسهيل إدانة الرجل في المحكمة، ذلك أنه سيحاكم أمام هيئة محلفين مشكلة، عبر اختيار عشوائي، من قبل مواطنين أمريكيين عاديين يقيمون في محيطه السكني بتعريفه الواسع. ومع أن المحلفين مطالبون دستوريا وقانونيا بالفصل ما بين قناعاتهم المسبقة وتجنب أي تغطيات إخبارية حول موضوع المحاكمة التي أنيطت بهم، وما بين الحقائق التي تقدم في المحكمة، إلا أن طبيعة البشر غلابة، خصوصا إذا ما تعلق الأمر بأقلية، كالمسلمين في أمريكا، ممن يتعرضون لعملية تشويه بشعة من قبل بعض الأطراف اليمينية والصهيونية صباح مساء. 
إحدى المبادئ التي ينص عليها الدستور الأمريكي ويقدسها هو مبدأ المساواة بين الجميع أمام القانون. هذا المبدأ والذي يقدسه الإسلام أيضا، للأسف لا يجد تجسيدا دائما له على الأرض في أمريكا. وقد فصلت في مقالي في السبيل قبل أسبوعين "وجاء دور المسلمين... قيم أمريكا عندما تصبح شعارات دون مضامين"، بعض المراحل التاريخية التي شهدت اعتسافا على هذا المبدأ، وأشرت حينها إلى أن مسلمي أمريكا هم ضحايا الاعتساف في هذه المرحلة. وها هو أبو راتب يضاف كعنوان جديد لهذا الاعتساف غير العادل في هذه الحقبة الزمنية الجديدة في التاريخ الأمريكي.
ولكن وقبل أن أستطرد أكثر في تفسير هذا المعطى، لا  بد من إشارة تدخل في باب الموضوعية، ذلك أنه وبشكل عام فإن مبدأ المساواة في الفرص والوظائف وأمام القانون في أمريكا، هو المبدأ الغالب والحاكم في الأعم، وعادة ما تنتصر السلطات الحكومية سواء الفدرالية منها أم الولائية، فضلا عن القضاء، لهذا المبدأ، وكثيرا ما استفاد منه المسلمون أيضا. ولكن عندما يتعلق الأمر بالعمل الإسلامي القانوني والمشروع في أمريكا، وتعلو النبرة المفتعلة والمبالغ فيها "الحرب على الإرهاب"، يُغَيَّبُ هذا المبدأ بشكل مريب.
أقول ذلك بناء على تجارب نَفَذَ فيها آخرون من سلطة القانون عندما تعلق الأمر بتهم كتلك التي توجه اليوم لأبي راتب، ولكن طبعا في سياق آخر غير العمل الإسلامي.
خذ مثلا وزير المالية الأمريكي، تميثي غايثنر، والذي اتضح خلال جلسات مناقشة تثبيته في موقعه في مجلس الشيوخ الأمريكي في شهر كانون الثاني من العام الماضي أنه لم يدفع بعض الضرائب المستحقة عليه، وبأنه قدم معلومات خاطئة فيما يتعلق بذات الأمر في وثائق رسمية. لو طبق عليه القانون بحرفيته لما كان غايثنر وزيرا للمالية اليوم، ولربما دخل السجن أيضا. ونفس الأمر ينطبق على الكثير من أعضاء الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس الأمريكي، إذ لا تكاد تمر بضعة أشهر حتى تطفو إلى السطح فضيحة جديدة لهذا العضو أو ذاك، تتضمن في حالات كثيرة الحنث باليمين، أو إعطاء معلومات مضللة لعناصر فدراليين، ولكن قليلا منهم يدخل السجن.
في سياق التحريض اليميني والصهيوني على أبي راتب، والذي أشرنا إليه سابقا، ربما ينبغي أن نشير هنا إلى المستوى المنحط الذي وصلت إليه. فهذه التحريضات وصلت إلى حد اتهام محاميه دريد الدر بأنه "اعتذاري" عن "الإرهاب" الذي يصفه بـ"المقاومة"، حسب ما تقوله تلك المواقع الهابطة. وتزعم تلك المواقع بأن دريد فلسطيني، رغم أنه لبناني، وذلك فيما يبدو في مسعى لإدانته بدعم "الإرهاب" الفلسطيني، الذي تزعم تلك المواقع أن موكله أبا راتب أنشد له مبجلا في الماضي. ولا يتوقف انحطاط تلك المواقع عند هذا الحد، بل وصل بها الأمر إلى أن يهاجموه (دريد) بسبب أن بعض النساء في عائلته محجبات، بما في ذلك إحدى قريباته (شارلين مقلد الدر)، والتي هي أول قاضية مسلمة محجبة في التاريخ الأمريكي، وهي قاضية حاليا في ولاية ميتشغان.
لذلك كله، ينبغي أن ندرك أن أبا راتب ما هو إلا ضحية جديدة في سياق الكراهية والتمييز والهستيريا ضد المسلمين في أمريكا، والتي تشحنها بعض الجهات.. ضحية سبقتها مئات، ويبدو أنه سيلحقها آخرون بالعشرات. ولا يكاد أحد يعرف إن كان هذا الاستهداف الأعمى لعمل مشروع وقانوني في أمريكا سيصل يوما إلى نهاية. لقد تعشم المسلمون خيرا بانتخاب باراك أوباما للرئاسة، ورغم كلماته الإيجابية عن الإسلام والمسلمين، إلا أننا لم نر ثمارها بعد على أرض الواقع.. هذا إن كانت ستثمر أصلا في يوم ما!.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

تذكر قوله تعالى: ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد )

تويتر

فيس بوك

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More